الحرب الإيرانية الإسرائيلية 2025- أهداف متضاربة، هدنة هشة ومستقبل غامض.

قبل الاعتداء الغاشم الذي أقدمت عليه إسرائيل ضد إيران، كان نطاق الصراع بين طهران وتل أبيب محصورًا ضمن "المنطقة الرمادية"، أو ما يُعرف بنزاع القوة غير المتكافئ. ولكن منذ أسبوعين، تبدلت قواعد اللعبة، وصرنا أمام مواجهة مُعلنة مباشرة بين هذين اللاعبين الإقليميين المؤثرين.
ففي فجر يوم مشؤوم من أيام شهر يونيو/ حزيران لعام 2025، أعلنت الحكومة الإسرائيلية، في بيان رسمي شديد اللهجة، أنها نفذت "ضربة استباقية" أطلقت عليها اسمًا رمزيًا "الأسد الصاعد"، استهدفت من خلالها مواقع بالغة الأهمية والحساسية، كمفاعلات الطاقة النووية ووحدات الصواريخ المتطورة ومنصات الطائرات المسيّرة في مناطق نطنز وفوردو وخنداب وبارتشين.
وفي تزامن مُحكم، أطلق الجيش الإسرائيلي وجهاز الموساد سيئ السمعة عمليات اغتيال مُروعة ضد كبار القادة العسكريين المرموقين وبعض الشخصيات البارزة في البرنامج النووي الإيراني.
خلال أتون الحرب الضروس التي استمرت 12 يومًا بين طهران وتل أبيب، سقط ما لا يقل عن 610 ضحايا أبرياء من المدنيين الإيرانيين. ووفقًا لبيانات الجيش الإسرائيلي، فقد تم استهداف ما لا يقل عن 480 هدفًا استراتيجيًا حيويًا داخل إيران خلال هذه العمليات المفاجئة الخاطفة.
في المقابل، أعلنت القوات المسلحة الإيرانية الشجاعة بدء عملية "الوعد الصادق 3″، حيث أطلقت وابلاً من الصواريخ، تجاوز عددها 500 صاروخ، على الأراضي المحتلة، وذلك ضمن أكثر من 21 موجة هجومية متتالية. وأسفرت الهجمات الصاروخية الإيرانية عن مقتل 28 صهيونيًا غاشمًا، وإصابة 265 آخرين على الأقل بجروح خطيرة.
وعقب عملية "بشائر الفتح" الإيرانية المدوية ضد قيادة "سنتكوم" الأميركية في قاعدة العديد، وردًا على عملية "مطرقة منتصف الليل" الإسرائيلية، بدأت الولايات المتحدة، بمساعدة قطر، جهود وساطة حثيثة بين إيران وإسرائيل، وأعلن الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب عبر منشور على منصة "تروث سوشيال" عن التوصل إلى هدنة بين الطرفين المتنازعين.
والسؤال المحوري الذي يفرض نفسه بإلحاح بعد إعلان هذه الهدنة الهشة في المنطقة: هل ستندلع الحرب بين إيران وإسرائيل من جديد وتشتعل المنطقة بنيرانها؟
أهداف إسرائيل
بعد دقائق معدودة من الهجوم واسع النطاق على أهداف عسكرية ومدنية داخل الأراضي الإيرانية، أعلن كل من بنيامين نتنياهو، ويسرائيل كاتس، وجدعون ساعر، وهم القادة البارزون في الحكومة الإسرائيلية، أن الهدف الأسمى للحرب هو تدمير البرنامج النووي والصواريخ الباليستية الإيرانية بشكل كامل.
وعلى الرغم من أن الحكومة الإسرائيلية المارقة حاولت عبر المنابر الرسمية تلميع تلك الأهداف وإظهارها على أنها الأجندة الرئيسية للجيش وأجهزة الاستخبارات، فإن الحقائق الماثلة على الأرض تشير بوضوح إلى أن اليمين الصهيوني المتطرف يسعى إلى تحقيق غايات أبعد وأكثر طموحًا.
فقد ضخت إسرائيل أموالًا طائلة على الدعاية المضللة؛ بهدف تحريض الشعب الإيراني الأبي على التمرد والعصيان وتغيير النظام القائم في طهران، مما يكشف عن سعيها الحثيث لتغيير وجه منطقة الشرق الأوسط برمتها. لكن الشعب الإيراني، بإظهاره وحدة وطنية راسخة في مواجهة العدو الخارجي اللدود، لم يستجب لهذا المشروع الإسرائيلي- الأميركي الخبيث.
وبعد انتهاء الحرب التي استمرت أيامًا معدودة، أعلنت إسرائيل بتبجح أنها دمرت ما يقرب من 50% من منصات إطلاق الصواريخ الإيرانية الشاملة، واستهدفت 35 مركزًا حيويًا لتصنيع الصواريخ، واغتالت 11 عالمًا نوويًا إيرانيًا بارزًا.
وعلى الرغم من مزاعم "النصر العظيم" الزائفة التي أطلقها المسؤولون الإسرائيليون، فإن الحقائق الملموسة تشير إلى أن إسرائيل اكتفت بتوجيه ضربات محدودة للغاية إلى البرنامجين النووي والصاروخي الإيرانيين. وقد أظهرت استطلاعات للرأي العام أن إسرائيل بالغت بشكل كبير في حجم إنجازاتها في خطابها الموجه للشعب الإسرائيلي، والدليل القاطع على ذلك ما نشرته صحيفة "معاريف" الإسرائيلية ، بأن 65% من سكان الأراضي المحتلة لا يعتقدون أن إسرائيل حققت نصرًا حقيقيًا وواضحًا.
أهداف إيران
خلال الحرب الشرسة التي استمرت 12 يومًا، أعلنت طهران على الملأ أن أهم أهدافها كانت "الرد الفعال والمناسب على العدوان الإسرائيلي الغاشم"، و"حماية الأصول الاستراتيجية الحيوية"، و"معاقبة المعتدي بهدف استعادة الردع المفقود".
وأكد اللواء موسوي، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، أن العمليات العسكرية المنفذة حتى الآن كانت بمثابة تحذير شديد اللهجة لردع العدو، وأن العملية العقابية الحاسمة قادمة لا محالة.
عمليًا، ونظرًا لاستهداف إسرائيل لمنظومات الدفاع الجوي والراداري الإيرانية المتطورة، وعمليات التخريب الدنيئة التي نفذها عملاء الموساد الإسرائيلي الخبثاء، ركزت طهران جل اهتمامها على الهجوم المعاكس وضرب المراكز الاستراتيجية الهامة في الأراضي المحتلة، مثل: قاعدة نيفاتيم الجوية، وقاعدة عودا الجوية، وقاعدة رامون العسكرية، والمقر المركزي لجهاز الموساد سيئ السمعة، ومصفاة نفط حيفا.
"تجميد التوتر".. العودة إلى طاولة المفاوضات
مع إعلان الهدنة بين إيران وإسرائيل، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومبعوثه الخاص للشرق الأوسط ستيف ويتكوف عن محادثات غير رسمية مع طهران، تهدف إلى إحياء المفاوضات النووية المتوقفة.
ويبدو أن واشنطن قد عرضت بعض الحوافز المغرية لإيران، كرفع جزئي للعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، ولا سيما السماح ببيع النفط للصين. وقد ذكرت شركة "Kpler" المتخصصة أن صادرات إيران النفطية بلغت 2.2 مليون برميل يوميًا، ومن المتوقع أن ترتفع إلى 2.4 مليون برميل في المستقبل القريب.
لاحقًا، كشفت شبكة "CNN" الإخبارية عن عرض أميركي سخي بقيمة 30 مليار دولار لإنشاء برنامج نووي سلمي متكامل مقابل تخلي إيران عن تخصيب اليورانيوم بشكل كامل. وعلى الرغم من اهتمام البيت الأبيض بإبرام اتفاق نووي جديد مع إيران، فقد نفى وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في مقابلة تلفزيونية حصرية وجود أي خطط جادة لاستئناف المفاوضات النووية.
وتوضح تقارير وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية أن المنشآت النووية الإيرانية لم تُدمر بالكامل، وأن هناك ما يقرب من 400 كيلوغرام من اليورانيوم العالي التخصيب لا يزال مصيرها مجهولًا حتى الآن. وبالتالي، فإن العودة إلى طاولة المفاوضات باتت شبه حتمية، ما لم تقدم إسرائيل على استئناف مغامراتها العسكرية المتهورة مجددًا.
"تراجع تكتيكي" وفتح "صندوق باندورا" من جديد
خلال قمة الناتو التي عقدت في هولندا، تحدث دونالد ترامب بصراحة ووضوح عن "الضربات القاسية" التي تعرضت لها إسرائيل جراء الهجمات الصاروخية الإيرانية. وفي الوقت نفسه، تحدثت بعض المصادر المطلعة عن محدودية مخزون الدفاعات الجوية الإسرائيلية اللازمة لمواجهة هجمات إيرانية طويلة الأمد، وهو ما نفاه الجيش الإسرائيلي مرارًا وتكرارًا.
في ظل هذا السيناريو المحتمل، قد تلجأ إسرائيل بعد إعادة بناء قدراتها العسكرية المهلهلة وتحديث تقييماتها الاستخباراتية لجولة أخرى من الهجمات العسكرية بذريعة استمرار التهديد النووي والصاروخي الإيراني المزعوم.
ويبدو أن النخبة السياسية والعسكرية والاستخباراتية في إيران تتعامل مع احتمال استئناف الحرب في المدى القصير بواقعية شديدة، وهو ما تعززه التجارب السابقة في كل من لبنان وسوريا، بالإضافة إلى عدم تحقيق إسرائيل لأهدافها المعلنة بالكامل خلال الحرب الأخيرة.
العودة إلى المنطقة الرمادية: لا حرب ولا سلم
حتى قبل الهجوم الإسرائيلي السافر على القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من أبريل/ نيسان 2024، كان الصراع المرير بين إيران وإسرائيل يدور في فلك "المنطقة الرمادية"، حيث كان الطرفان يتجنبان الدخول في حرب مباشرة وشاملة. لكن الحرب الشاملة التي استمرت من 13 إلى 25 يونيو/ حزيران 2025 دفعت بعض خبراء العلاقات الدولية إلى القول إن العودة إلى المنطقة الرمادية لم تعد ممكنة على الإطلاق.
غير أن فريقًا آخر من الخبراء يرى أنه في حال فشلت المفاوضات المحتملة بين إيران والولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه لم تكن إسرائيل راغبة في خوض حرب جديدة مدمرة، فإن الطرفين قد يعودان إلى استخدام أدوات "الحرب غير المتكافئة" من خلال العمليات الاستخباراتية المعقدة، وإطلاق الحملات الدبلوماسية المكثفة، والاستفادة القصوى من الحلفاء الإقليميين، أو توظيف الأدوات الاقتصادية المختلفة.
حرب على مستقبل الشرق الأوسط
المنتصر في الحرب الدائرة بين إيران وإسرائيل سيكون له دور حاسم ومؤثر في "إعادة تشكيل" النظام الإقليمي في منطقة غرب آسيا بأكملها. ولعل فهم مكانة عملية "طوفان الأقصى" التي وقعت في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 في خريطة التنافس الجيوستراتيجي المحتدم بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، يوضح لنا هذا التوجه بجلاء.
فإسرائيل، باعتبارها الحليف الاستراتيجي الأهم لأميركا في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، تسعى جاهدة إلى إزالة محور المقاومة من معادلة المنطقة بشكل كامل، تمهيدًا لتفعيل ممر "الهند – الشرق الأوسط – أوروبا" (IMEC) الطموح واحتواء النفوذ الصيني والروسي المتزايد في منطقة شمال المحيط الهندي.
ويتزايد الحديث في الآونة الأخيرة عن نهاية محتملة لحرب غزة المدمرة، وتوسيع اتفاقيات "أبراهام" لتشمل دولًا أخرى مثل السعودية وسوريا، وهو ما يعكس بوضوح خطة مشتركة بين ترامب ونتنياهو لإعادة رسم خريطة منطقة الشرق الأوسط وفقًا لمصالحهما.